من الاية 103 – 129 الأعراف
قرئنا في مقالات سابقة خمسة قرى أرسل الله في كل قرية رسول وهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب ومن خلال متابعتنا لتلك القرى نجد ان الله لم يتطرق في سورة الأعراف الى تفاصل كافية عن مجريات تلك الرسالات إنما اقتصر على مقتطفات سريعة وموجزة من يقرئها يعتقد ان الله تسرع بالقضاء عليهم أو لم يعطيهم الوقت الكافي لتغير عقائدهم – بالعكس ان الله أعطاهم الوقت الكافي ولقد وضح ذلك بقوله – قال الله - وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء تغيرات قاهرة فيها انهيارات اقتصادية وآفات زراعية ومخاوف مجتمعية كالأوبئة ونقص في الأمن الغذائي كآيات تحذيرية قبل وقوع الهلاك – لعلهم يتضرعون أي ينكسرون خوفا من عذاب الله الدنيوي – من المجتمعات التي مستهم البأساء والضراء بشكل مباشر والتي تطرق إليها القران بالتفصيل هم قوم فرعون – يعتبر موسى سادس رسول حسب التسلسل الزمني لمن قبله من الأنبياء حسب ما جاء في سورة الأعراف – ثم بعثنا من بعدهم موسى –أي من بعد الرسل الخمسة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب -- ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا الى فرعون وملئه –الملا يختلف عن القوم – الملأ هم الحاشية السياسية التي تتشكل منها حكومة فرعون والتي هي عبارة عن خليط من زعامات وديانات وقوميات مختلفة - فقارون كان يمثل طائفة بني إسرائيل في حكومة فرعون – فظلموا بها أي ظلموا أنفسهم جحودا بآيات لله - وظلموا المؤمنين من بني إسرائيل ومن السحرة بالقتل والاضطهاد – فانظر ولا يقصد النظر المشاهد بالعين لان الحدث من الماضي إنما جاءت من الانتظار أي انتظر الى نهاية الأحداث لمعرفة كيف كان عاقبة المفسدين
ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ{103}
من الصحراء وتحديدا من الوادي المقدس بعث الله موسى بآياته الى فرعون – فقال موسى- يا فرعون إني رسول من رب العالمين – حقيق علي أي بعد الآيات التي التمسها موسى في الوادي المقدس أصبحت لديه حقيقة دامغة بأنه رسول من رب العالمين – حقيق علي ان لا أقول على الله إلا الحق فأصبح موسى ملزما بتوصيل رسالة ربه على حقيقتها –فقال - قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل – موسى ببداية الأمر جاء لتخليص بني إسرائيل من تسلط وبطش فرعون بان يخرجهم من مصر الى الوادي المقدس فطلب من فرعون - ان أرسل معي بني إسرائيل
وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ{104} حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ{105}
قال فرعون لموسى ان كنت جئت بآية فات بها ان كنت من الصادقين – قدم موسى آيته فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين –غالبا ما يخفي السحرة بعض الأشياء ما بين أصابعهم أو خلف كفي أيديهم أو ما بين ثياب اليد للمناورة بها إثناء تقديم عروض السحر –فعندما يقوم الساحر خداع الناس يفتح يده أو رفعها الى الأعلى أو تقليب كفيه تأكيدا منه على إنها فارغة –فعندما تحولت عصى موسى الى ثعبان - نزع موسى يده فإذا هي بيضاء للناظرين أي خالية من الأشياء المخفية خلف الأصابع وكفي اليد تأكيدا منه على خلوها من أي مؤثرات عروض السحر
قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ{106} فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ{107} وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ{108}
لما رأى الملأ من قوم فرعون ان موسى نزع يده كما يفعل السحرة - قالوا - ان هذا لساحر عليم – يريد ان يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون – قالوا ارجه أي لينتظر هو وأخاه هارون الى وقت أخر لاستدعاء الساحرة من كافة المدائن – وأرسل في المدان حاشرين جامعين السحرة - يأتوك بكل ساحر عليم
قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ{109} يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ{110} قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ{111} يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ{112}
بعد ان استدعى فرعون جميع السحرة لمنازلة موسى – قالوا- لفرعون ان لنا أجرا ان كنا الغالبين – قال نعم – بل لكم أكثر مما طلبتم وأنكم لمن المقربين – كمستشارين في مفاصل الدولة – قال نعم وأنكم من المقربين – قالوا أي السحرة - يا موسى إما تلقي أي تبدءا أنت الأول وإما ان نكون نحن الملقين –طلب موسى منهم ان يلقوا أولا -- قال لقوا – فلما لقوا سحروا أعين الناس بالخدع البصرية واسترهبوهم أي أصاب الحضور الرهبة لشدة ما أتوا به من سحر – فما جاء به سحرة فرعون هو عبارة عن عصي وحبال صممت على شكل أفاعي مختلفة الأشكال يتخيلها الناظر على أنها أفاعي تسعى – قال الله - قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى –فقدموا في المنازلة أعظم ما لديهم من سحر -- وجاءوا بسحر عظيم --
وَجَاء السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ{113} قَالَ نَعَمْ وَإَنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ{114} قَالُواْ يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ{115} قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ{116}
جاء دور موسى - وأوحينا الى موسى ان القي عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون – أفك يعني كذب ما صنعوا– تلقف لا تعني تبتلع أو تفترس إنما وضعت أفعى موسى عصي وحبال سحرة فرعون بين فكيها فتوقفت عن الحركة –فحركة أفاعي سحرة فرعون تسعى على الأرض فقط وليس لهن القدرة على القفز أو اللقف كالأفاعي الحقيقية -- بينما أفعى موسى لقف حبالهم وعصيهم فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون - فبدلا من ان تكون الغلبة لسحرة فرعون غلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين محتقرين أمام فرعون وملئه
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ{117} فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ{118} فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ{119}
ولما أيقن السحرة ان ما جاء به موسى هو ليس سحرا إنما آية من آيات ربه القوا ساجدين لرب موسى وهارون معلنين إيمانهم صراحة أمام فرعون وملئه قائلين أمنا برب موسى وهارون – إيمان السحرة بالله اكبر صفعة لفرعون أمام ملئه - ولكي يحافظ على ماء وجهه - قال - أمنتم به قبل ان آذن لكم – أي قبل ان اسمح لكم بالإيمان متهما السحرة بالتآمر مع موسى - قائلا - ان هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون – توعد فرعون السحرة المؤمنين بالله بإبادة جماعية – قائلا- لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين – قال السحرة إنا الى ربنا منقلبون - أي راجعون – وما تنقم منا أي السبب الذي جعلنا نقمت عليك هو إنا آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا - ربنا افرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين – سؤال يطرح نفسه لماذا أباد فرعون السحرة وترك موسى وهارون دون عقاب –الجواب لان السحرة هم من قوم فرعون لذا اعتبر إيمانهم بالله مؤامرة انقلابية على آلهتهم – وهذا الحال ينطبق على حكام العرب ومن أزرهم من مراجع الإسلام السياسي – فأي تغير عقائدي صحيح يناهض عقيدة تلك الطوائف يجابه بالرفض والاعتقال والاضطهاد بل وحتى الإبادة
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ{120} قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ{121} رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ{122} قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَـذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ{123} لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ{124} قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ{125} وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ{126}
موسى وهارون وبني إسرائيل هم طائفة دينية يرجع جذورها الى ذرية ممن حملنا مع نوح طالها قمع واضطهاد فرعوني لعقود من الزمن - فلم تكن تلك الطائفة بعيدة عن أنظار ملأ فرعون - فبعد تصفية السحرة والقضاء عليهم ذكر ملأ فرعون – فرعون مستفهمين ما هي الإجراءات التي سيتخذها مع موسى وهارون وبني إسرائيل فمن غير المعقول ان يتركوا في البلاد أحرارا يمارسون دينهم بحرية كامله – وقال الملأ من قوم فرعون أتذر- أتذر اي أتترك موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك والهتك – يذرك أي يتكاثر ويذري ذرية - قال – سنقتل أبنائهم ونستحيي نساءهم وأنا فوقهم قاهرون - بالإجراءات التعسفية والاضطهاد والسجون – بعد ان علم المؤمنون من بني إسرائيل أنهم سيتعرضون الى اضطهاد وتعسف على يد فرعون – قال موسى لقومه موجها إياهم باتخاذ التدابير التالية -- استعينوا بالله واصبروا –ان الأرض لله يرثها من يشاء من عباده – والعاقبة أي الآخرة للمتقين – أكثر شعب تحملا للاضطهاد عبر التاريخ هم بني إسرائيل فمنذ بداية ولادة موسى وحتى خروج بني إسرائيل من مصر لم يفتر عنهم القمع والاضطهاد الفرعوني – قال بني إسرائيل لموسى - أوذينا من قبل ان تأتنا أي قبل رسالتك ومن بعد ما جاءتنا أي بعد رسالتك – قال موسى عسى ربكم ان يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض - ولكن هذا لن يتحقق حتى ينظر الله الى أعمالكم -- فينظر كيف تعملون
وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ
لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ
أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ{127}
قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ
لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ{128}
قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ
عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ
فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ{129}
تعليقات
إرسال تعليق